شَرَعَ اللهُ سُبحانه وتعالى لعباده الدعاء ليكون صلتهم المباشرة به، ووسيلتهم للتقرّب إليه ومناجاته، وأمرهم بالإخلاص فيه واليقين بقدرته ورحمته، ووعدهم بالإجابة، وقد بيّن أهل العلم أن للدعاء ضوابط وآدابًا ينبغي للمسلم أن يتحلى بها، لما لها من أثرٍ عظيم في زيادة روحانية الدعاء وقَبوله، فهي تعكس جوهر العبودية والخضوع بين يدي الله جلّ وعلا.
أثر اليقين في الدعاء عند الشدائد
قد يمر الإنسان بمراحل مليئة بالتحديات والصعاب، ويرجو تحقيق أمورٍ تبدو بعيدة المنال أو مستحيلة في نظره، حتى يبلغ به اليأس مبلغًا يُفقده التركيز في عبادته، وفي هذه اللحظات، يأتي دور اللجوء إلى الله بيقينٍ تام، فالدعاء الخالص هو مفتاح الفرج.
إن من أعظم ما يعين العبد على الصبر والرضا هو استحضار الأجر المترتب على ترك ما تهواه النفس ابتغاء مرضاة الله، وقد جاء في الحديث ما يؤكد هذا المعنى، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:
-
“إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا بَدَّلَكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ.”
هذا الحديث الصحيح يُعدُّ منارة أمل، فهو يوجه المسلم إلى أن يكل أمره كله لله، ويجاهد نفسه للتخلص من التعلق بما يشغله عن طاعة ربه، وأن يرضى بما قسمه الله له، وعندما يبلغ اليقين هذا المبلغ، يجد العبد حلاوة المناجاة، ويتجلى له معنى قول الله تعالى:.
-
“وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.” [البقرة: 186]
.
هذه الآية الكريمة تبيّن عظمة الدعاء وتؤكد قرب الله من عباده، وأنه سبحانه يسمع دعاءهم ويجيب سؤالهم، فالمؤمن الحق هو الذي يُحسن الظن بربه، ويدعوه بيقين في الإجابة، سواء كان ذلك في أمور يراها يسيرة أو تلك التي يظنها مستحيلة، فكل شيء على الله هيّن.
حكم الدعاء بما يُعتقد أنه مستحيل
يثور تساؤل حول حكم الدعاء بأمرٍ يبدو في ظاهره مستحيلًا حسب المقاييس البشرية، والأصل في الدعاء أنه مشروع ومحبوب إلى الله، ما لم يتضمن إثمًا أو قطيعة رحم أو اعتداءً.
وقد بيّن العلماء أن “الاعتداء في الدعاء” هو المنهي عنه، وهو أن يطلب العبد ما لا يجوز له شرعًا أو ما يخالف سنن الله الكونية، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “فكل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله”.
أما الأمور المستحيلة عادةً ولكنها ممكنة في قدرة الله، كشفاء مرضٍ عضال أو تيسير زواجٍ متعسر، فالدعاء بها مشروع وهو من صميم التوكل على الله وحسن الظن به، فالله على كل شيء قدير، والمحظور هو الدعاء بما يخالف السنن الكونية الثابتة كطلب الخلود في الدنيا، أو ما يخالف الشرع كطلب العون على معصية.
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية أن من الاعتداء طلب ما هو ممتنع إما عادة أو شرعًا، فالدعاء بتحقيق أمور صعبة تبدو بعيدة المنال هو دليل على قوة إيمان العبد وثقته المطلقة بقدرة الله التي لا يحدها شيء.
أهمية الدعاء في حياة المسلم
الدعاء من أعظم العبادات وأجلّها، فهو الصلة المباشرة بين العبد وربه، ومصدر الطمأنينة والسكينة في قلب المؤمن، عندما يرفع المسلم يديه متضرعًا إلى الله، فإنه لا يطلب حاجته فحسب، بل يحقق العبودية ويقوي صلته بخالقه، مما يعيد ترتيب نفسه ويزيد يقينه بقدرة الله على تغيير حاله إلى الأفضل.
إن بركة الدعاء لا تقتصر على استجابة الطلبات، بل تمتد لتشمل حياة الداعي كلها، فتراه محاطًا بتوفيق الله ورعايته في أمور لم يكن يتوقعها، فالدعاء بحد ذاته عبادة تُقرّب من الله، سواء كان لطلب حاجة دنيوية أو لنيل الهداية والتوفيق في الآخرة، وكلما ازداد العبد إلحاحًا في الدعاء، ازداد قربًا من ربه ويقينًا بأنه في معيته سبحانه.
1- الدعاء عبادة عظيمة
الدعاء ليس مجرد طلب، بل هو من أسمى العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، والله سبحانه وتعالى يجزي عليه ويكرم صاحبه، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم منزلته العظيمة بقوله:
-
“الدُّعاءُ هوَ العبادةُ.”
ثم قرأ قول الله تعالى:
“وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ.” [غافر: 60]
(رواه الترمذي وصححه الألباني).
- كما أن الدعاء من أكرم الأعمال عند الله تعالى، لدلالته على افتقار العبد لربه وتوكله عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“ليسَ شيءٌ أكرمَ علَى اللَّهِ تَعالى منَ الدُّعاءِ.”
(رواه الترمذي وحسنه الألباني).
2- الدعاء وسيلة لرفع البلاء
الدعاء من أقوى الأسباب التي يدفع الله بها البلاء عن العبد قبل نزوله ويرفعه بعد نزوله، فهو سلاح المؤمن في مواجهة الشدائد والمصائب، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
“لا يَرُدُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ.”
الراوي: سلمان الفارسي | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترمذي | الصفحة أو الرقم: 2139 | خلاصة حكم المحدث: حسن.
3- الدعاء سبب لانشراح الصدر
عندما يتوجه العبد بقلبه إلى ربه، ويدعوه بإخلاص ويقين، يغمر قلبه شعور بالطمأنينة وينشرح صدره، فالدعاء يخفف الأحمال النفسية، ويزيل الهموم، ويُمد الإنسان بطاقة إيجابية، ويعزز يقينه بأن الله يسمعه ويراه ولن يتركه، فتتحول مشاعر الضيق إلى أمل ورجاء.
4- الدعاء مصدر للنصر والثبات
كان الدعاء سلاح الأنبياء والصالحين في المواقف الصعبة، يستمدون به العون من الله لتحقيق النصر والثبات على الحق، وقد قصّ علينا القرآن الكريم دعاء المؤمنين عند مواجهة أعدائهم:
-
“وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.” [البقرة: 250]
.
فكانت نتيجة هذا الدعاء الصادق أن أجابهم الله تعالى ونصرهم، كما قال سبحانه:
“فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ…” [البقرة: 251]
5- الدعاء سلاح المظلوم
دعوة المظلوم من أقوى الأدعية وأسرعها إجابة، فليس بينها وبين الله حجاب، وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم وأكّد على خطورة دعوة المظلوم، حيث قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه:
“وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.”
الراوي: عبد الله بن عباس | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم: 1496 | خلاصة حكم المحدث: صحيح.
أقسام الدعاء في الشرع
قسّم العلماء الدعاء إلى قسمين رئيسيين، وكلاهما عبادة عظيمة يثاب عليها فاعلها، وهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
1- دعاء العبادة
هو كل عمل صالح يتقرب به العبد إلى الله تعالى، طمعًا في ثوابه وخوفًا من عقابه، كالصلاة والصيام والزكاة والصدقة والذكر، وكذلك أعمال القلوب كالمحبة والخشية والرجاء والتوكل، فكل عابدٍ لله هو داعٍ له بلسان حاله، يرجو القبول والمغفرة.
2- دعاء المسألة
هو طلب العبد من ربه ما ينفعه في دينه ودنياه، من جلب خير أو دفع شر، كأن يقول: “اللهم اغفر لي”، أو “اللهم ارزقني”، أو “اللهم اشفني”، هذا النوع من الدعاء هو إظهار صريح للافتقار إلى الله والاعتماد عليه وحده في قضاء الحوائج.
وقد أوضح الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله أن كل دعاء في القرآن يشمل هذين النوعين، فكل داعٍ دعاء مسألة هو عابد لله، وكل عابد لله هو داعٍ دعاء عبادة ودعاء مسألة.
ومن أعظم نعم الله على عباده أنه فتح لهم باب الدعاء، ليتواصلوا معه مباشرة دون وسيط، فيبثوا له همومهم وحاجاتهم، وهم على يقين بأنه سبحانه السميع القريب المجيب.
المصادر والمراجع
- سورة البقرة، الآية 186.
- سورة البقرة، الآية 250.
- سورة البقرة، الآية 251.
- سورة غافر، الآية 60.
- حديث “إنك لن تدع شيئًا لله…”، (رواه الإمام أحمد في المسند، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط، يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “الدعاء هو العبادة”، (رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، رقم 3372، يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “ليس شيء أكرم على الله…”، (رواه الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب، رقم 1629، يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “لا يرد القضاء إلا الدعاء”، (رواه الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، رقم 2139، يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “واتق دعوة المظلوم…”، (رواه البخاري، رقم 1496، يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
الأسئلة الشائعة (FAQs)
ما حكم الدعاء بأمر يبدو مستحيلًا؟
الدعاء بالأمور الصعبة التي هي في قدرة الله تعالى (كشفاء مرض عضال) مشروع وهو من حسن الظن بالله، أما المنهي عنه فهو “الاعتداء في الدعاء”، أي طلب ما يخالف سنن الله الكونية (مثل الخلود) أو ما هو محرم شرعًا.
ما هو الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة؟
دعاء العبادة: هو كل عمل صالح يقوم به العبد تقربًا إلى الله، مثل الصلاة والذكر، دعاء المسألة: هو الطلب المباشر من الله لجلب نفع أو دفع ضر، مثل قول “اللهم ارزقني”، وهما متلازمان، فكل عبادة تتضمن طلبًا، وكل طلب هو عبادة.
هل دعوة المظلوم مستجابة دائمًا؟
نعم، أكدت الأحاديث الصحيحة أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، مما يدل على أنها مستجابة، وهذا تحذير شديد من الظلم، وتأكيد على أن الله هو نصير المظلومين.

