يُمثّل التسامح والعفو قبل قدوم شهر رمضان خطوةً جوهريةً نحو تنقية القلوب وتهيئتها لاستقبال هذا الشهر العظيم بروحٍ صافية ونفسٍ مُقبلة على الطاعة، فشهر رمضان هو فرصة فريدة للتقرب إلى الله عزّ وجلّ، ونيل رحمته ومغفرته التي وسعت كل شيء، لذا، ينبغي على المسلم أن يُقبل على هذا الشهر بقلبٍ سليم، خالٍ من الشحناء والبغضاء، وذلك بالبدء في إصلاح علاقته مع الآخرين، وطي صفحات الماضي، وطلب العفو ممن أساء إليهم، والعفو عمن أساء إليه.
إن فضيلة العفو والتسامح ليست مجرد سلوك اجتماعي محمود، بل هي عبادة عظيمة وقيمة إسلامية أصيلة حثّ عليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهي شرط أساسي لتنقية النفس وبلوغ حالة الصفاء الروحي التي تعين العبد على الاستفادة القصوى من نفحات هذا الشهر الكريم.
فضل العفو والتسامح في الإسلام استعدادًا لرمضان
يحتل العفو والصفح منزلة رفيعة في الدين الإسلامي، وقد وردت نصوص شرعية كثيرة تؤكد على فضله وأهميته، خاصة عند استقبال مواسم الخير والطاعات كشهر رمضان المبارك، حيث تكون النفوس أكثر استعدادًا للخير والقلوب أشد إقبالًا على الله.
الحث على العفو في القرآن الكريم
أمر الله تعالى عباده بالتحلي بخلق العفو والصفح، وجعل ذلك من صفات المتقين المحسنين، ووعدهم على ذلك عظيم الأجر والمثوبة، قال تعالى:
“خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ” [الأعراف: 199]
كما بيّن سبحانه أن العفو والإصلاح سبب لنيل أجر خاص منه جل وعلا، فقال:
“فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ” [الشورى: 40]
وجعل العفو عن الآخرين سبباً مباشراً لنيل عفو الله ومغفرته، وهو ما يطمح إليه كل مسلم في رمضان:
“وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” [النور: 22]
التسامح في السنة النبوية الشريفة
كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس عفوًا وصفحًا، وقد حثّ أمته على هذا الخلق الرفيع في أحاديث كثيرة، مبيناً أنه سبب للعزة والرفعة من الله.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
“مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ”
(صحيح مسلم)، يوضح هذا الحديث الشريف أن العفو لا يُنقص من قدر الإنسان، بل يزيده الله به عزة وكرامة.
- عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ”
(رواه الترمذي وقال: حديث حسن)، ومن أعظم مكارم الأخلاق التي ينبغي أن يعامل بها الناس: التسامح والعفو.
- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال، فقال:
“يَا عُقْبَةُ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ”
(رواه أحمد، وحسنه بعض أهل العلم)، وهذا الحديث يجسد قمة التسامح العملي، وهو مقابلة الإساءة بالإحسان.
كيف نستقبل رمضان بقلبٍ سليم؟
استقبال شهر رمضان بقلب سليم يتطلب خطوات عملية لتصفية النفس من الأحقاد والضغائن، إليك بعض النصائح العملية المستوحاة من قيم ديننا الحنيف:
- المبادرة بطلب العفو: لا تتردد في الاعتذار وطلب المسامحة ممن أخطأت في حقهم، كن أنت البادئ بالخير، فالاعتراف بالخطأ فضيلة ترفع قدرك عند الله وعند الناس.
- العفو عن الناس: تدرب على مسامحة من أساء إليك، متذكراً أنك بذلك تطلب عفو الله ومغفرته، تصفية القلب من الأحقاد تجلب الطمأنينة وتعين على الخشوع في العبادة.
- الدعاء بقلب سليم: أكثر من الدعاء بأن يطهر الله قلبك من الغل والحقد والحسد، وأن يرزقك قلباً سليماً تُقبل به على طاعته.
- إصلاح ذات البين: اسعَ للإصلاح بين المتخاصمين، فهي من أعظم القربات إلى الله، وتساهم في تهيئة جو إيماني نقي في المجتمع قبل دخول الشهر الفضيل.
رسائل وعبارات للمسامحة قبل رمضان
قد تكون الكلمات الطيبة جسراً لإصلاح العلاقات وبدء صفحة جديدة، يمكنك الاستعانة بهذه العبارات لإرسالها لمن حولك، تعبيراً عن رغبتك في التسامح والتصالح:
- بمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك، أُشهد الله أني قد عفوت عن كل من أخطأ في حقي، وألتمس العفو من كل من أخطأت في حقه، أسأل الله أن يبلغنا رمضان بقلوب نقية ونفوس صافية.
- اللهم بلغنا رمضان وقد طهرت قلوبنا من الشحناء والبغضاء، أرسل إليكم هذه الرسالة راجياً الصفح والمسامحة عن أي زلل أو تقصير، ولنبدأ معاً صفحة بيضاء في هذا الشهر الكريم.
- مع نفحات رمضان العطرة، قررت أن أفتح صفحة جديدة ملؤها المحبة والصفاء، سامحت الجميع، وأرجو أن تسامحوني، كل عام وأنتم إلى الله أقرب.
- الحياة قصيرة، وشهر رمضان فرصة ثمينة للتوبة والتغيير، أعتذر عن أي خطأ بدر مني، وأسأل الله أن يجمعنا على الخير والمحبة، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
أقوال مأثورة في قيمة التسامح
التسامح قيمة إنسانية عالمية تحدث عنها الحكماء والمفكرون عبر العصور، وهذه بعض الأقوال التي تبرز أهميتها (وهي من باب الحكمة العامة وليست نصوصاً شرعية):
- جواهر لال نهرو: “النفوس العظيمة وحدها تعرف كيف تسامح”.
- إبراهيم الفقي: “التسامح إما أن يكون كاملاً أو لا يكون، فأنصاف التسامح لا تشفي الجروح”.
- جبران خليل جبران: “التسامح محبة أدركت أنها أسمى من أن تُجرح”.
- جون ف، كينيدي: “سامح أعداءك، ولكن لا تنسَ أسماءهم أبدًا”، (يُفهم في سياق الحذر لا الحقد).
المصادر والمراجع
- سورة الأعراف، الآية 199.
- سورة الشورى، الآية 40.
- سورة النور، الآية 22.
- صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، حديث رقم 2588، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معاشرة الناس، حديث رقم 1987، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- مسند الإمام أحمد، حديث رقم 17452، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
أسئلة شائعة حول التسامح قبل رمضان
- ما حكم طلب المسامحة قبل رمضان؟
- طلب المسامحة وإصلاح العلاقات مع الناس أمر مستحب ومندوب إليه في كل وقت، ويتأكد استحبابه عند إقبال مواسم الطاعات كشهر رمضان، لأنه يعين المسلم على دخول الشهر بقلب سليم ونفس صافية، مما يساعد على الخشوع وقبول العبادة، وهو ليس واجباً محدداً بوقت، لكنه من أفضل الأعمال التحضيرية للشهر الفضيل.
- هل أنا ملزم شرعاً أن أسامح من ظلمني؟
- العفو والصفح عن من ظلمك هو من أعلى مراتب الإحسان وهو أمر مستحب وفضيلة عظيمة يثاب عليها المسلم ثواباً جزيلاً، شرعاً، لك الحق في المطالبة بحقك أو القصاص، ولكن العفو أفضل وأعظم أجراً عند الله، لقوله تعالى: “فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ”.
- ما هو الدعاء الذي يقال لتصفية القلب؟
- لم يرد دعاء مخصص بصيغة معينة لتصفية القلب، ولكن يمكن للمسلم أن يدعو بما يفتح الله عليه من الأدعية العامة التي تحمل هذا المعنى، مثل: “اللهم طهر قلبي من النفاق، وعملي من الرياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة”، أو “اللهم إني أسألك قلباً سليماً”، أو الدعاء القرآني:
“رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” [الحشر: 10]


العفو والعافية