يعد الدعاء بعد إتمام قراءة القرآن الكريم من المسائل التي كثر فيها الحديث بين المسلمين، خاصة مع اقتراب شهر رمضان المبارك الذي يتسابق فيه المؤمنون لختم كتاب الله، يتناول هذا المقال الحكم الشرعي لهذه المسألة، مستعرضًا آراء الفقهاء المعتبرين، مع بيان الأدلة والمواضع الصحيحة للدعاء، والفصل بين ما هو ثابت وما هو شائع بين الناس، لتقديم دليل شامل وموثوق للمسلم.
إن فهم هذه الأحكام ضروري لضمان أن تكون العبادة موافقة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يُعتبر الدعاء من أعظم العبادات، ووقته وموضعه لهما أثر كبير في قبوله، وسنوضح الفروق بين الدعاء داخل الصلاة وخارجها، مع التركيز على الإخلاص والاتباع كأساس لقبول الأعمال.
بيان الحكم الشرعي لدعاء ختم القرآن
اختلف أهل العلم في حكم دعاء ختم القرآن الكريم، خاصة إذا كان داخل الصلاة، وتتلخص أقوالهم في رأيين رئيسيين، مع تفصيلات لكل مذهب.
الرأي الأول: عدم مشروعية الدعاء عند الختم داخل الصلاة
ذهب فقهاء المالكية والحنفية وبعض العلماء المعاصرين إلى أن تخصيص دعاء لختم القرآن داخل الصلاة (سواء في التراويح أو غيرها) هو أمر غير مشروع، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام، وتستند حجتهم إلى أن العبادات توقيفية، أي لا يجوز فعلها إلا بدليل شرعي صريح.
- في المذهب المالكي: نُقل عن الإمام مالك -رحمه الله- قوله:
“ما سمعتُ أنَّه يدعو عند خَتْمِ القرآن، وما هو من عملِ النَّاسِ”،
المصدر: المستخرجة عن ابن القاسم، كما في ((المدخل)) لابن الحاج (2/299)..
- في المذهب الحنفي: يرون كراهة الدعاء عند ختم القرآن في جماعة، لأنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
- رأي المحدثين المعاصرين: بيّن بعض العلماء المحدثين أن التزام دعاء معين بعد الختم يُعد من البدع، قال الشيخ الألباني:
“أنَّ التزامَ دعاءٍ مُعَيَّن بعد ختْمِ القرآن من البِدَع التي لا تجوز”،
المصدر: ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (13/315)..
- رأي الشيخ ابن عثيمين: فصّل في المسألة، مؤكداً أن الدعاء عند ختم القرآن داخل الصلاة غير مشروع، أما خارج الصلاة فهو ما ورد عن بعض السلف، قال رحمه الله:
“إنَّ دعاءَ ختْمِ القرآن في الصلاة لا شكَّ أنَّه غير مشروع، لأنَّه وإن ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه كان يجمع أهلَه عند خَتْمِ القرآن ويدعو فهذا خارِجَ الصلاة..، فلهذا يمكن أن نقول: إنَّ الدعاءَ عند ختم القرآن في الصَّلاة لا أصلَ له ولا ينبغي فِعلُه”،
المصدر: ((الشرح الممتع)) (4/42)..
الرأي الثاني: استحباب الدعاء عند الختم
يرى فقهاء المذهب الحنبلي، وعليه عمل كثير من السلف، أن الدعاء عند ختم القرآن مستحب، سواء كان داخل الصلاة أو خارجها، واستدلوا بعمل أهل مكة والبصرة، وبما نُقل عن بعض الصحابة والتابعين.
- في المذهب الحنبلي: نُقل عن الإمام أحمد بن حنبل جوازه واستحبابه، قال فضل بن زياد: سألت أبا عبد الله (الإمام أحمد) فقلت: أختم القرآن، أجعله في الوتر أو في التراويح؟ قال:
“اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنين..، إذا فرغت من آخر القرآن، فارفع يديك قبل أن تركع، وادعُ بنا ونحن في الصلاة، وأطل القيام”.
وسُئل: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال:
“رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة”.
المصدر: مسائل الإمام أحمد..
- رأي الشيخ ابن باز: رأى الإمام ابن باز -رحمه الله- أنه لا حرج في دعاء ختم القرآن في الصلاة، خاصة في صلاة الوتر في رمضان، بشرط ألا يطيل الإمام على المصلين، واستحب أن يختار جوامع الدعاء، لما روته عائشة رضي الله عنها:
“كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب جوامع الدعاء، ويدع ما سوى ذلك”،
رواه أبو داود وصححه ابن حبان.وأشار إلى أن هذا الأمر، وإن لم يثبت فعله عن النبي ﷺ داخل الصلاة، فقد فعله بعض السلف، ولم يُنكر عليهم، مما يدل على أن في الأمر سعة.
المواضع المناسبة لدعاء ختم القرآن
بناءً على رأي من أجاز الدعاء في الصلاة، فإن الموضع المختار يكون بعد الانتهاء من قراءة سورة “الناس” وقبل الركوع في الركعة الأخيرة من صلاة التراويح أو الوتر، وهذا مشابه لدعاء القنوت في موضعه، أما من يرى عدم مشروعيته في الصلاة، فيكون الدعاء بعد الصلاة أو في أي وقت آخر خارجها، وهو ما ثبت عن الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه، حيث كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا.
والدعاء بشكل عام مشروع في كل وقت، خاصة في مواطن الإجابة كجوف الليل الآخر، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود، وبعد الصلوات المكتوبة.
دعاء ختم القرآن الشائع ونصوصه
تنتشر بين المسلمين صيغ طويلة لدعاء ختم القرآن، وغالباً ما تكون مطبوعة في أواخر بعض نسخ المصحف الشريف، هذه الأدعية تحتوي على معانٍ طيبة وجوامع للخير، ويجوز للمسلم الدعاء بها أو بغيرها مما يفتح الله عليه من خيري الدنيا والآخرة، نورد هنا نموذجاً لهذه الأدعية الشائعة:
-
- اللَّهُمَّ ارحمني بالقُرْآنِ وَاجْعَلهُ لِي إِمَامًا وَنُورًا وَهُدًى وَرَحْمَةً.
- اللَّهُمَّ ذَكِّرْنِي مِنْهُ مَا نَسِيتُ وَعَلِّمْنِي مِنْهُ مَا جَهِلْتُ وَارْزُقْنِي تِلاَوَتَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَاجْعَلْهُ لِي حُجَّةً يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
- اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
- اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمْرِي آخِرَهُ وَخَيْرَ عَمَلِي خَوَاتِمَهُ وَخَيْرَ أَيَّامِي يَوْمَ أَلْقَاكَ فِيهِ.
- اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِيشَةً هَنِيَّةً وَمِيتَةً سَوِيَّةً وَمَرَدًّا غَيْرَ مُخْزٍ وَلاَ فَاضِحٍ.
- اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا.
- اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ، وَانْصُرْ إِخْوَانَنَا المُسْتَضْعَفِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
“رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”
[البقرة: 201]
- وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
تنبيه هام: هذه الصيغة المذكورة أعلاه هي مما يتداوله بعض الناس وتُطبع في المصاحف، وهي تجمع أدعية طيبة، ولكنها لم تثبت بهذا الترتيب والنص كوحدة واحدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، الدعاء عبادة، والأصل فيها الالتزام بما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وهي كافية ومباركة، أو أن يدعو المسلم بما يحتاجه من خير الدنيا والآخرة دون التزام صيغة محددة يعتقد أن لها فضلاً خاصاً.
أهمية وفضل تلاوة القرآن الكريم في الإسلام
تلاوة القرآن الكريم من أجلّ العبادات وأعظم القربات، فهي تجارة لن تبور، ولها فضائل عظيمة تعود على المسلم في الدنيا والآخرة:
- رفعة الدرجات في الآخرة: قارئ القرآن يكون مع السفرة الكرام البررة، ويرتقي في درجات الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ”،
رواه مسلم (798)..
- شفاعة لأصحابه يوم القيامة: يأتي القرآن شفيعاً لمن كان يتلوه ويعمل به في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم:
“اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ”،
رواه مسلم (804)..
- طمأنينة القلب وسكينة الروح: تلاوة القرآن وذكر الله تورث القلب الطمأنينة والراحة النفسية، قال تعالى:
“الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”
[الرعد: 28].
- حفظ البيت من الشياطين: المداومة على قراءة القرآن، خاصة سورة البقرة، تطرد الشياطين من البيوت وتحصنها بإذن الله.
الآداب الشرعية لتلاوة القرآن الكريم
لكي يحصل المسلم على الأجر الكامل والثواب العظيم من تلاوة كتاب الله، يُستحب له الالتزام بالآداب التالية:
- إخلاص النية لله تعالى: أن تكون القراءة ابتغاء وجه الله تعالى، لا لمراءاة الناس أو طلب السمعة.
- الطهارة: يُستحب أن يكون القارئ على وضوء، فلا يمس المصحف إلا طاهر، لقوله تعالى:
“لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ”
[الواقعة: 79].
- تنظيف الفم: يُسن استخدام السواك أو ما يقوم مقامه لتطييب الفم قبل التلاوة تعظيماً لكلام الله.
- استقبال القبلة: من آداب التلاوة الجلوس مستقبل القبلة ما أمكن ذلك.
- الاستعاذة والبسملة: يبدأ القارئ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ثم البسملة في أول كل سورة (ما عدا سورة التوبة).
- الخشوع والتدبر: أن يقرأ بتأنٍ وتدبر، محاولاً فهم المعاني والتأثر بها، فليس المقصود مجرد سرعة الختم.
- تحسين الصوت بالقراءة: يُستحب تزيين الصوت بالقرآن وترتيله دون تكلف أو خروج عن أحكام التجويد.
المصادر والمراجع
- سورة البقرة، الآية 201.
- سورة الرعد، الآية 28.
- سورة الواقعة، الآية 79.
- صحيح مسلم، حديث رقم 798 وحديث رقم 804، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- سنن أبي داود، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- كتاب ((المدخل)) لابن الحاج المالكي.
- كتاب ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) للشيخ محمد بن صالح العثيمين.
- كتاب ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة)) للشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
أسئلة شائعة (FAQs)
- هل يوجد دعاء محدد وثابت لختم القرآن عن النبي ﷺ؟
- لا، لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء معين بصيغة محددة عند ختم القرآن، والأمر فيه سعة، فيدعو المسلم بما يشاء من خيري الدنيا والآخرة.
- أيهما أفضل، الدعاء عند ختم القرآن داخل الصلاة أم خارجها؟
- الأمر محل خلاف بين العلماء، الثابت عن الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يدعو بعد الختم خارج الصلاة، ومن أجازه في الصلاة كالإمام أحمد استحبه قبل الركوع، والأحوط والأقرب للسنة هو الدعاء خارج الصلاة اقتداءً بفعل الصحابي، أو الدعاء بأدعية عامة في السجود أو قبل التسليم.
- ما حكم قراءة دعاء الختم المطبوع في آخر المصحف؟
- يجوز الدعاء به لأنه يشتمل على معانٍ طيبة، ولكن لا يجوز اعتقاد أن له فضيلة خاصة أو أنه سنة لازمة، فالأفضل هو الالتزام بالأدعية المأثورة من القرآن والسنة الصحيحة.

