يُعد السجود في الصلاة من أعظم المواطن التي يتقرب بها العبد إلى ربه، فهي لحظة خشوع وخضوع تتجلى فيها العبودية بأسمى صورها، إن هذا الموضع يتميز بقربٍ خاص من الله سبحانه وتعالى، مما يجعله من أرجى أوقات إجابة الدعاء، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المكانة العظيمة في حديثه الشريف.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
“أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ”.
(المصدر: صحيح مسلم، حديث رقم 482)، هذا التوجيه النبوي يجعل السجود فرصة ثمينة للمسلم ليبث إلى خالقه حاجاته وأمنياته، ويلتمس منه الرحمة والمغفرة، ويطلب خيري الدنيا والآخرة.
أدعية السجود والركوع الثابتة في السنة النبوية
وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم العديد من الأذكار والأدعية الصحيحة التي كان يقولها في ركوعه وسجوده، وهي تمثل الهدي النبوي الأمثل الذي ينبغي للمسلم الحرص عليه.
1، أدعية الركوع الصحيحة
يُشرع للمصلي أن يقول في ركوعه “سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ” ثلاث مرات أو أكثر، بالإضافة إلى الأدعية التالية:
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده:
“سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي”.
(المصدر: صحيح البخاري، حديث رقم 794؛ صحيح مسلم، حديث رقم 484).
- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال:
“اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي”.
(المصدر: صحيح مسلم، حديث رقم 771).
- عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه:
“سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ”.
(المصدر: سنن أبي داود، حديث رقم 873، وصححه الألباني).
2، الدعاء عند الرفع من الركوع
عند الرفع من الركوع، يقول المصلي “سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ”، ثم بعد أن يستوي قائماً يقول:
- “رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ”، (متفق عليه).
- أو: “رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ”، (صحيح مسلم، 476).
3، أدعية السجود الصحيحة
السجود هو موطن الدعاء والإلحاح على الله، يُشرع للمصلي أن يقول “سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى” ثلاث مرات أو أكثر، ثم يدعو بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده:
“اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ”.
(المصدر: صحيح مسلم، حديث رقم 483).
- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد قال:
“اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ”.
(المصدر: صحيح مسلم، حديث رقم 771).
- عن عائشة رضي الله عنها، أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدها على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول:
“اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ”.
(المصدر: صحيح مسلم، حديث رقم 486).

أمثلة على صيغ أدعية شائعة ومتداولة
تنتشر بين الناس بعض الأدعية التي تُقال في السجود، ورغم جمال معانيها، إلا أنه من المهم التنبيه على أنها لم ترد في مصادر السنة النبوية المعتمدة، ومن هذه الصيغ:
- “اللهم يا ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة دار الخلود، مع المقربين الشهود، الركع السجود، الموفين بالعهود، إنك رؤوف ودود، أنت تفعل ما تريد…”.
- “يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يُرام، وبملكك الذي لا يُضام، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، يا مغيث أغثني…”.
- “يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا صريخ المستصرخين، يا غياث المستغيثين، يا كاشف السوء، يا أرحم الراحمين…”.
تنبيه هام وحكم هذه الأدعية
تنبيه هام: هذه الصيغ المذكورة أعلاه هي مما يتداوله بعض الناس، ولم تثبت بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، الدعاء عبادة، والأصل فيها الالتزام بما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فهي كافية ومباركة وشاملة لخيري الدنيا والآخرة.
ومع ذلك، يجوز للمسلم أن يدعو في سجوده بما شاء من خيري الدنيا والآخرة ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم، حتى لو كان بأسلوبه الخاص، وذلك لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: “فأكثروا الدعاء”، وقوله بعد التشهد: “ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو”، والأفضل والأكمل هو الدعاء بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حكم الدعاء في السجود خلال صلاة الفريضة
لا فرق في مشروعية الدعاء بين صلاة الفريضة والنافلة، فالتوجيه النبوي بالإكثار من الدعاء في السجود جاء عاماً ولم يخصص صلاة دون أخرى، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على استغلال هذا الموضع المبارك لطلب الحاجات من الله تعالى، سواء كانت دنيوية أم أخروية.
ومن الأدعية الجامعة التي يمكن الدعاء بها في السجود، سواء من القرآن أو السنة:
-
“رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”
[البقرة: 201].
-
“رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ”
[آل عمران: 8].
-
“رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ”
[آل عمران: 147].
- “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى”، (صحيح مسلم، 2721).
- “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ”، (صحيح مسلم، 2739).
دعاء “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”
يُعد هذا الدعاء من أعظم الأدعية النبوية وأكثرها شمولاً، وهو يعبر عن حاجة العبد الدائمة إلى عون الله لتثبيته على الحق، ورغم أنه لم يرد مخصصاً للسجود، إلا أنه من الأدعية الجامعة التي يجوز الدعاء بها في السجود وغيره.
- نص الدعاء:
“يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ”.
.
- وروده في السنة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”، فقلت: يا نبي الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: “نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء”، (المصدر: سنن الترمذي، حديث رقم 2140، وقال: حديث حسن).
- أهميته: يؤكد هذا الحديث الشريف على أن ثبات القلب على الإيمان والهداية هو محض فضل من الله تعالى، مما يستوجب على المسلم الإلحاح في طلب هذا الثبات، خاصة في أزمنة الفتن.

المواضع المخصصة للدعاء في الصلاة
قسّم أهل العلم مواضع الدعاء في الصلاة إلى قسمين رئيسيين بناءً على ما ورد في السنة النبوية:
القسم الأول: مواضع يُستحب فيها الإكثار من الدعاء
وهي المواضع التي ورد فيها الحث على الإطالة والتوسع في الدعاء بما يشاء المسلم من خيري الدنيا والآخرة، وهي:
- في السجود: لحديث: “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ”.
- بعد التشهد الأخير وقبل السلام: لقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علّم الصحابة التشهد: “ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو”، (صحيح البخاري، 835).
- في قنوت الوتر: لما ثبت عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: “علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر…”، (سنن الترمذي، 464).
القسم الثاني: مواضع ورد فيها دعاء مقيد
وهي مواضع وردت فيها أدعية وأذكار محددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل فيها الالتزام بالوارد دون إطالة أو زيادة، ومنها:
- دعاء الاستفتاح: بعد تكبيرة الإحرام.
- في الركوع: بما سبق ذكره من أذكار التعظيم والتسبيح.
- عند الرفع من الركوع: بالحمد والثناء.
- بين السجدتين: حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَعَافِنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي”، (سنن أبي داود، 850).
المصادر والمراجع
- سورة البقرة، الآية 201.
- سورة آل عمران، الآية 8.
- سورة آل عمران، الآية 147.
- صحيح البخاري، أحاديث رقم 794، 835، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- صحيح مسلم، أحاديث رقم 476، 482، 483، 484، 486، 771، 2721، 2739، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- سنن الترمذي، أحاديث رقم 464، 2140، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- سنن أبي داود، أحاديث رقم 850، 873، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
الأسئلة الشائعة (FAQs)
س1: هل يجوز الدعاء بأمور الدنيا في السجود؟
نعم، يجوز للمسلم أن يدعو الله تعالى في سجوده بكل ما يحتاجه من أمور دينه ودنياه، كطلب الرزق الحلال، والزوجة الصالحة، والنجاح في الدراسة، والشفاء من الأمراض، ما لم يكن الدعاء بإثم أو قطيعة رحم.
س2: ما هو أفضل دعاء يقال في السجود؟
الأفضل هو الجمع بين ما ورد في السنة النبوية من أدعية مأثورة، مثل “اللهم اغفر لي ذنبي كله…” و “سبحانك اللهم ربنا وبحمدك…”، ثم الدعاء بما يشاء المسلم من حاجاته، فالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم هو الأكمل والأعظم أجراً.
س3: هل يجب الالتزام بالأدعية المأثورة فقط أم يمكنني الدعاء بأسلوبي الخاص؟
الالتزام بالمأثور هو الأفضل والأكمل، ولكن لا حرج في أن يدعو المسلم بأسلوبه الخاص وبما يجول في خاطره من حاجات، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال “فأكثروا الدعاء” ولم يقيده بصيغة معينة، مما يدل على سعة الأمر.