يحرص المسلمون على زيارة القبور للعظة والاعتبار والدعاء للأموات، وهي سُنّة مشروعة تذكّر بالآخرة وتُزهّد في الدنيا، ولكي تكون الزيارة موافقة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ينبغي للزائر أن يتحلى بالسكينة والوقار، وأن تكون نيته خالصة لله تعالى، وأن يلتزم بالآداب الشرعية والأدعية المأثورة الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
إن الهدف الأسمى من الزيارة هو نفع الميت بالدعاء له، ونفع الحي بتذكر مصيره، بعيداً عن أي ممارسات أو أقوال تخالف الشرع.
الدعاء الصحيح عند دخول المقابر
الدعاء عند دخول المقابر من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتضمن السلام على أهل القبور والدعاء لهم وللنفس بالمغفرة، الصيغة الصحيحة الواردة في السنة هي:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقبورِ المدينةِ فأقبل عليهم بوجهِه، فقال:
«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ»
(رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
وهناك صيغة أخرى صحيحة وردت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها أن تقول إذا دخلت المقابر:
-
«السَّلَامُ علَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وإنَّا -إنْ شَاءَ اللَّهُ- بكُمْ لَلَاحِقُونَ»
(رواه مسلم).
أدعية مأثورة من السنة النبوية للميت
الأصل في الدعاء للميت هو الالتزام بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الأدعية هي أجمع للخير وأعظم في البركة، يمكن الدعاء بها عند القبر أو في أي وقت آخر، من هذه الأدعية الصحيحة:
- دعاء جامع للمغفرة والرحمة:
«اللَّهُمَّ اغْفِرْ له وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ وَاعْفُ عنْه، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا كما نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِن دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِن أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِن زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِن عَذَابِ القَبْرِ، أَوْ مِن عَذَابِ النَّارِ»
(رواه مسلم).
- دعاء يشمل الأحياء والأموات:
«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ»
(رواه الترمذي وأبو داود، وصححه الألباني).
- دعاء للميت الذي وُضع في لحده:
«اللَّهُمَّ، إنَّ فلانَ بنَ فلانٍ في ذِمَّتِكَ وحبلِ جِوارِكَ، فَقِهِ من فتنةِ القبرِ، وعذابِ النَّارِ، وأنتَ أهلُ الوفاءِ والحقِّ، فاغفِرْ له وارحَمْه، إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرَّحيمُ»
(رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني).
أمثلة على صيغ دعاء منتشرة
تنتشر بين الناس بعض صيغ الأدعية للمتوفى، خاصة للوالدين، وهي ذات معانٍ طيبة، يمكن الدعاء بها على سبيل العموم ما لم تتضمن محظوراً شرعياً، مع العلم أنها لم ترد بنصها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- “اللَّهُمَّ افسح له في قبره مدّ بصره، وافرش قبره من فراش الجنة، اللَّهُمَّ إنّه في ذمتك وحبل جوارك، فقِهِ فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، فاغفر له وارحمه، إنّك أنت الغفور الرحيم.”.
- “اللهمّ اجعل قبره روضة من رياض الجنة، ولا تجعله حفرة من حفر النار، اللهمّ بشّره بقولك: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ).”.
- “اللهم ارحم والديَّ واغفر لهما، وأنزلهما منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، واجعلهما في أعلى الدرجات مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.”.
تنبيه هام: هذه الصيغ هي مما يتداوله بعض الناس، ولم تثبت بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، الدعاء عبادة، والأصل فيها الالتزام بما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فهي كافية وشاملة ومباركة.
آداب زيارة القبور وفق السنة النبوية
لتحقيق المقصد الشرعي من زيارة القبور، ينبغي الالتزام بالآداب التالية المستمدة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم:
- إخلاص النية: أن تكون الزيارة للعظة والاعتبار والدعاء للموتى، اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
- قول الدعاء المأثور: السلام على أهل القبور والدعاء لهم بما ورد في السنة.
- عدم الجلوس على القبور أو المشي عليها: لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ، فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ»
(رواه مسلم).
- خلع النعال عند المشي بين القبور: احتراماً لحرمة المكان، لما رُوي عن بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ أنه كان يمشي بين القبور في نعليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
«يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ، أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ»
(رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني).
- اجتناب البدع والمنكرات: مثل التمسح بالقبور، أو الطواف بها، أو الذبح عندها، أو دعاء الميت من دون الله، فكل ذلك من الشركيات والبدع المحدثة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«…وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»
(جزء من حديث رواه مسلم).
- عدم تخصيص يوم معين للزيارة: لم يثبت في السنة تخصيص يوم الجمعة أو غيره لزيارة القبور، فالزيارة مشروعة في أي وقت.
حكم زيارة القبور للنساء
اختلف الفقهاء في حكم زيارة النساء للقبور على قولين رئيسيين، بناءً على اختلاف فهم الأحاديث الواردة في المسألة:
- القول الأول (الكراهة أو التحريم): استدل أصحاب هذا القول بحديث:
«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ»
(رواه الترمذي وابن ماجه)، وعللوا ذلك بأن النساء أقل صبراً وأكثر جزعاً، وزيارتهن قد تؤدي إلى النياحة وشق الجيوب وغيرها من المحرمات.
- القول الثاني (الجواز بشروط): استدل أصحاب هذا القول بأحاديث أخرى، منها عموم قوله صلى الله عليه وسلم:
«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا»
(رواه مسلم)، حيث يرون أن الخطاب يشمل الرجال والنساء، كما استدلوا بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها ما تقوله عند زيارة القبور، والراجح عند كثير من أهل العلم هو الجواز إذا أُمنت الفتنة والتزمت المرأة بالآداب الشرعية، فلم ترفع صوتاً ولم تتبرج.
هل يشعر الميت بمن يزوره؟
هذه المسألة من أمور الغيب التي لا يمكن الجزم بها إلا بدليل صريح وصحيح من القرآن أو السنة، وردت بعض الآثار والأحاديث التي قد يُفهم منها أن الميت يشعر بزيارة الحي، أشهرها حديث: “ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به وردّ عليه حتى يقوم”.
الحكم على الحديث: هذا الحديث رواه ابن أبي الدنيا وغيره، وقد ضعّفه كثير من أهل العلم والمحققين، حيث إن في سنده رواة مجاهيل أو ضعفاء، لذلك، لا يمكن الاعتماد عليه في إثبات هذه المسألة الغيبية، والأولى بالمسلم أن يركز على ما هو ثابت ومشروع، وهو الدعاء للميت الذي ينفعه بإجماع المسلمين.
توجيه قرآني حول الغفلة عن الآخرة
نبه القرآن الكريم إلى خطورة الانشغال بملذات الدنيا والتكاثر فيها عن الاستعداد للآخرة، وجعل زيارة المقابر (أي الموت) نهاية لهذه الغفلة، قال تعالى في سورة التكاثر:
“أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)” [سورة التكاثر: 1-8]
هذه السورة تذكير بليغ بأن زيارة القبور الحقيقية هي الموت، وما الزيارة التي نقوم بها في الدنيا إلا عظة وتذكرة بذلك اليوم.
المصادر والمراجع
- سورة التكاثر، القرآن الكريم.
- صحيح مسلم، كتاب الجنائز، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- سنن الترمذي، كتاب الجنائز، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- سنن أبي داود، كتاب الجنائز، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- سنن النسائي، كتاب الجنائز، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
أسئلة شائعة (FAQs)
- ما هو أفضل وقت لزيارة القبور؟
- لم يثبت في السنة النبوية الصحيحة تخصيص وقت معين لزيارة القبور، فالزيارة مشروعة في أي وقت من ليل أو نهار، وتخصيص يوم الجمعة أو العيد يُعد من الأمور المحدثة التي لا أصل لها.
- هل قراءة القرآن عند القبر مشروعة؟
- لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام أنهم كانوا يقرؤون القرآن عند القبور، السنة الثابتة هي السلام على أهلها والدعاء لهم، وقد أجاز بعض الفقهاء القراءة على سبيل إهداء الثواب، ولكن الأولى هو الاقتصار على ما ورد به الدليل وهو الدعاء.
- ما هو البديل الصحيح للأدعية المنتشرة غير المأثورة؟
- البديل الأفضل والأسلم هو الالتزام بالأدعية الصحيحة الواردة في السنة النبوية، مثل دعاء “اللهم اغفر له وارحمه…” ودعاء “اللهم اغفر لحينا وميتنا…”، فهي أدعية جامعة ومباركة علمنا إياها من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.


