التوبة بابٌ مفتوحٌ من الله تعالى لكل عبدٍ أخطأ وأسرف على نفسه، فقد شرع الله لعباده الرجوع إليه ووعدهم بقبول توبتهم مهما عظُمت ذنوبهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه والمسلمين على كثرة الاستغفار والإلحاح في طلب المغفرة، إن الدعاء الصادق بقلبٍ منكسرٍ هو من أعظم أسباب مغفرة الذنوب، سواء كان بأدعية مأثورة من القرآن والسنة أو بصيغ عامة تجمع خيري الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما ورد في فضل التوبة قول الله عز وجل في كتابه الكريم، واصفًا عباده الصالحين الذين يتوبون إليه:
“وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴿٦٨﴾ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴿٦٩﴾ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿٧٠﴾ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴿٧١﴾” [سورة الفرقان: 68-71].
أدعية مأثورة من السنة النبوية في التوبة والاستغفار
إن أفضل ما يدعو به العبد هو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أوتي جوامع الكلم، وهذه بعض الأدعية الصحيحة الثابتة عنه في طلب المغفرة:
- سيد الاستغفار: عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ:
اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ
قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ”، (صحيح البخاري).
- دعاء يكفّر الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
“مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ”
(صحيح البخاري وصحيح مسلم).
- دعاء جامع للمغفرة: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يدعو بهذا الدعاء:
“اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”
(صحيح البخاري وصحيح مسلم).
- دعاء الاعتراف بالذنب: عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم:
“اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ”
(صحيح مسلم).
أدعية قرآنية لطلب المغفرة والتوبة
القرآن الكريم هو كلام الله، والدعاء به من أفضل القربات، وقد علمنا الله سبحانه صيغًا للدعاء في كتابه العزيز، منها:
-
“رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” [آل عمران: 16].
.
-
“رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” [آل عمران: 147].
.
-
“رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ” [الأعراف: 23].
.
-
“رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” [التحريم: 8].
.
صيغ وأدعية عامة شائعة لطلب المغفرة
يتداول الناس بعض الصيغ العامة للدعاء التي لم ترد بنصها في حديث معين، ولكن معانيها صحيحة ولا تخالف الشرع، ويمكن الدعاء بها على وجه العموم، إليك بعض الأمثلة:
- “اللَّهُمَّ إِنَّ رَحْمَتَكَ أَوْسَعُ مِنْ ذُنُوبِي، وَعَفْوَكَ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ عَمَلِي، فَاغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ يَا كَرِيمُ.”.
- “يَا رَبِّ، لَا تَرُدَّنِي خَائِبًا وَأَنْتَ الكَرِيمُ، وَلَا تَحْرِمْنِي إِجَابَةَ دُعَائِي وَأَنْتَ الوَاسِعُ العَطَاءِ، يَا كَاشِفَ الكَرْبِ وَيَا مُفَرِّجَ الهَمِّ، اغْفِرْ لِي كُلَّ زَلَلِي وَخَطَايَايَ وَتَقَبَّلْ مِنِّي تَوْبَتِي.”.
- “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ يَحْرِمُنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ عَمَلٍ يُبَاعِدُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَمِنْ كُلِّ تَقْصِيرٍ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ رِضَاكَ.”.
تنبيه هام وحكم هذه الأدعية
تنبيه هام: هذه الصيغ المذكورة أعلاه هي مما يتداوله بعض الناس، ولم تثبت كنصوص محددة بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، الدعاء عبادة، والأصل فيها الالتزام بما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فهي كافية ومباركة وشاملة لخيري الدنيا والآخرة.
الحكم الشرعي: يجوز الدعاء بهذه الصيغ وأمثالها ما دامت معانيها صحيحة ولا تحتوي على محظور شرعي، لأن باب الدعاء واسع، ولكن، لا يجوز نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو تخصيص فضل معين أو عدد معين لها لم يرد به دليل شرعي.
دعاء التوبة من الذنب المتكرر
الوقوع في الذنب مرة بعد مرة قد يصيب العبد باليأس، ولكن رحمة الله أوسع، والمطلوب من العبد هو صدق التوبة في كل مرة، والعزم على عدم العودة، والاستعانة بالله على ذلك، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذنوب الخلوات فقال:
“لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا”، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: “أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا”
(حديث صحيح، رواه ابن ماجه).
ومن الأدعية النبوية التي تعين على الثبات وترك الذنوب:
- “اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا.” (صحيح مسلم).
- “يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ.” (حديث صحيح، رواه الترمذي).
- “اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.” (صحيح البخاري وصحيح مسلم).
- “اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.” (صحيح مسلم).
أسباب مغفرة الذنوب
إضافة إلى الدعاء، هناك أعمال صالحة تعد من أعظم أسباب تكفير الذنوب ومغفرتها بإذن الله، ومنها:
- التوحيد الخالص: إفراد الله بالعبادة واجتناب الشرك، فهو أعظم سبب للمغفرة.
- الأعمال الصالحة: المداومة على الصلوات الخمس، والوضوء، والصدقة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، فهي مكفرات لما بينها من الصغائر.
- الاستغفار الدائم: لزوم الاستغفار باللسان والقلب، خاصة في أوقات الإجابة كالثلث الأخير من الليل.
- التوبة النصوح: وهي التي تجتمع فيها شروط: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة إليه.
- حسن الخلق: العفو عن الناس، وكظم الغيظ، ومساعدة المحتاجين، كلها من الأسباب التي يرجى بها عفو الله.
ما الفرق بين التوبة والاستغفار؟
كثيراً ما يُذكران معاً، لكن بينهما فرق دقيق ومهم:
- الاستغفار: هو طلب المغفرة، أي طلب ستر الذنب والتجاوز عنه، وهو غالبًا ما يكون باللسان، وقد يكون مصحوبًا بالندم أو لا، الاستغفار هو جزء من التوبة وخطوة نحوها.
- التوبة: هي مفهوم أعمق وأشمل، إنها رجوع كامل إلى الله، وتتضمن: (1) الإقلاع الفوري عن الذنب، (2) الندم الصادق على فعله، (3) العزم الأكيد على عدم العودة إليه، فكل تائب مستغفر، وليس كل مستغفر تائبًا.
وقد جمع الله بينهما في قوله تعالى:
“وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ” [هود: 52].
وهذا يدل على أن الاستغفار يسبق التوبة الكاملة ويمهد لها.
المصادر والمراجع
- سورة الفرقان، الآيات 68-71.
- سورة آل عمران، الآية 16.
- سورة آل عمران، الآية 147.
- سورة الأعراف، الآية 23.
- سورة التحريم، الآية 8.
- سورة هود، الآية 52.
- حديث “سيد الاستغفار”، (صحيح البخاري، حديث رقم 6306)، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “سبحان الله وبحمده مائة مرة”، (صحيح البخاري، حديث رقم 6405)، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي”، (صحيح البخاري، حديث رقم 6398)، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت”، (صحيح مسلم، حديث رقم 771)، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “ذنوب الخلوات”، (صحيح، سنن ابن ماجه، حديث رقم 4245)، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “اللهم آت نفسي تقواها”، (صحيح مسلم، حديث رقم 2722)، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “يا مقلب القلوب”، (صحيح، سنن الترمذي، حديث رقم 2140)، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “اللهم إني ظلمت نفسي”، (صحيح البخاري، حديث رقم 834)، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
- حديث “اللهم أصلح لي ديني”، (صحيح مسلم، حديث رقم 2720)، (يمكن مراجعته على موسوعة الدرر السنية).
أسئلة شائعة
ما هو أفضل وقت للدعاء بطلب المغفرة؟
الدعاء بطلب المغفرة مشروع في كل وقت، ولكن هناك أوقات يُرجى فيها إجابة الدعاء أكثر من غيرها، مثل: الثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود أثناء الصلاة، وآخر ساعة من يوم الجمعة.
هل يغفر الله كل الذنوب؟
نعم، يغفر الله الذنوب جميعًا لمن تاب إليه توبة صادقة، مهما عظمت، إلا الشرك بالله إذا مات صاحبه عليه دون توبة، قال تعالى: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” [الزمر: 53].
أذنبت ثم تبت، ثم عدت للذنب مرة أخرى، فهل تُقبل توبتي؟
نعم، باب التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس من مغربها أو تصل الروح إلى الحلقوم، الواجب على المسلم كلما أذنب أن يبادر بالتوبة الصادقة، حتى لو تكرر منه الذنب، المهم أن تكون توبته في كل مرة صادقة، مشتملة على الندم والعزم على عدم العودة، ولا ييأس أبدًا من رحمة الله.


